فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عباد الله إن من عباد الله من إذا أنعم الله عَلَيْهِ بمال كثير كانَتْ الحال عنده فوضى فلا تضع زوجتك ولا بناته أيديهم في دقيق ولا جليل من أعمال البيت فيجيء لهن بخدامين وسواقين وطباخين الواحد مِنْهُمْ في طول النخلة في منتهى العافية ولا يبعد أن يكون من الشباب الَّذِينَ يعجبون النساء جمالاً وَرُبَّمَا خلو في النساء وصَاحِب البيت من زوج أو غيره لاه في أمور دنياه أو في عمله لا يفكر فيما تفكر فيه النساء ولا فيما يفكر فيه الخادم أو السائق وكأن نساءه في اعتقاده معصومَاتَ ولا يدري أنه ما خلا رجل بامرأة إِلا وثالثهما الشيطان وأن النساء حبائل الشيطان وأنهن من أضر ما على الرجل وأن لذة الرجل عندهن ولذاتهن عنده لا يخالف في ذَلِكَ أحد إِلا معتوه أو نحوه فإذا رأت المرأة شابًا ولا ثالث لهما فلا يبعد أن تدعوه لذَلِكَ فما موقف هَذَا المغفل أمام بديع السماوات والأرض الَّذِي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ولعل جواب هَذَا الجاهل أنه لا يدور في خلده أن امرأته تقدم على مثل هَذَا لأنها معصومة قولوا له أما سمعت بقصة امرأة العزيز اقرأها لعلك تأخذ حِذرك وتعلم أنه لا يسلم من فتنهن إِلا عباد الله المخلصين.
قولوا له تأمل الْقِصَّة لعلك تفهم أن الله جلا وعلا لم يذكرها في القرآن إِلا ليعتبر أولو الأبصار فيحترس الرِّجَال علي نسائهم من الخدم ونحوهم.
إن امرأة العزيز كانَتْ ذات مركز عَظِيم في مصر وكَانَ يوسف عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام في بيتها كخادم لها ومَعَ ذَلِكَ لم تسأل عن شرفها وكرامتها ولا شرف زوجها بل داستهما بنعل الشهوة دوسًا ولم تتوقف في بذل كُلّ ما تستطيع من قوة وحيلة لإخضاع يوسف عَلَيْهِ السَّلام ولولا أن الله عصمه وصرف عَنْهُ السُّوء والفحشاء لوصلت إلى ما تريد قال تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
والفتنة الثَّانِيَة أنك تجد آخر يأتي بخدامة ويتخَيْر القوية الجميلة وبيته الواسع مملوء من العزاب أولاد وإِخْوَان وَرُبَّمَا خلو بها وَهُوَ أيضًا ربما خلا بها وَرُبَّمَا تَكُون أجمل من زوجته أو أولاده فلا تهمه تلك الناحية التي يعرفها بعض النساء الفاسقات ويستبعد ذَلِكَ من نسائه وأنه من المحال عنده فتنبهوا يا عباد الله ولا تستخدموا الشباب ولا الشابات من النساء وإِلا فقَدْ عرضتم أنفسكم للفتن والمشاكل والعقوبات. واحذروا استخدام الكافرين والكافرات.
فإن كَانَ لابد فاستخدموا الرِّجَال خارج البيوت واحذروا من اتصالهم بنسائكم وأما الخدامَاتَ فاحرصوا على كبيرة السن المتدنية غير الجميلة لتبتعدوا عن أسباب الشر والفساد وتطمئنوا على ما يأتيكم من أولاد أنهم من أصلابكم وإن أبيتم فالضَّرَر عائد عليكم دنيا وأخري.
بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرِجِ اللّوَا ** فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَءِ الأضُحَى الْغَدِ

آخر:
أَتَيْتُكَ رَاجِيًا يَا ذَا الْجَلالِ ** فَفَرِّجْ مَا تَرَى مِنْ سُوءِ حَالِي

عَصَيْتُكَ سَيِّدِي وَيْلِي بِجَهْلِي ** وَعَيْبُ الذَّنْبِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي

إِلَى مَنْ يَشْتَكِي الْمَمْلُوكُ إِلا ** إِلَى مَوْلاهُ يَا مَوْلَى الْمَوَالِي

فَوَيْلِي لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي ** وَلا أَعْصِيكَ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي

وَهَا أَنَا ذَا عَبِيدُكَ عَبْدَ سُوء ** بِبَابِكَ وَاقِفٌ يَا ذَا الْجَلالِ

فَإِنْ عَاقَبْتِ يَا رَبُّ فَإِنِّي ** مَحُقُ بِالْعَذَابِ وَبِالنِّكَالِ

وَإِنْ تَعْفُو فَعَفْوُكَ أَرْتَجِيهِ ** وَيَحْسُنُ إِنْ عَفَوْتَ قَبِيحَ حَالِي

اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إنك على كُلّ شَيْء قدير وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَسلم.

.فصل فيمن أنكر يوم القيامة والرد عليهم:

وقسم من النَّاس والعياذ بِاللهِ أنكروا يوم القيامة بتاتًا مستبعدين ومستفهمين استفهام إنكار وتهكم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فأوضح جَلَّ وَعَلا وبين أن الَّذِي خلقهم وأنشأهم أول مرة قادر على إحيائهم بعد فنائهم.
بل الإعادة أَهْوَن في نظر النَّاس وحدود قدرتهم من الإبداع فالَّذِي يعترف ويقر بأن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي بدأ الخلق يجب عَلَيْهِ ويتحتم أن يُيُسَلِّمَ بأن الله تَعَالَى قادر على الإعادة.
وذكر جَلَّ وَعَلا البدأ دليلاً على الإعادة فَقَالَ: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} وذكر جلا وعلا في سورة الروم أن إعادة الخلق أَهْوَن من ابتدائه فَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
ومن الأدلة العقلية الدالة على البعث دلالة قاطعة بمجرد نظر العاقل إليها يستدل بها استدلالاً لا يقبل الشك والشبهة بوقوع ما خبرت به الرسل من البعث خلق السماوات والأرض على عظمها فكل منصف يعلم بالبداهة الحسية أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق النَّاس في ابتدائهم وإعادتهم.
وورد بعدة آيات الاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرة الله تَعَالَى على إحياء الموتى قال تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهذه الآية أكد جَلَّ وَعَلا صحة البعث، المعنى أن ابتداء الخلق لم يعجز الله والإعادة أسهل من الابتداء والكل على الله هين: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فلا مجال للشك في الإعادة عِنْدَ من يقر في الابتداء.
وَقَالَ جلا وعلا مخبرًا عما قاله الكفار الَّذِينَ يستبعدون البعث ورادًا عَلَيْهمْ: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}.
وقَدْ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم ويعرفهم قدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم وإنشائه لَهُمْ كما كَانُوا قبل بلائهم خلقًا جديدًا على أي حال كَانُوا عظامًا أو رفاتًا أو حجارة أو حديدًا أو خلقًا مِمَّا يستبعد عندكم قبوله للحياة فإن الله على كُلّ شَيْء قدير، لا يعجزه إعادتكم مهما تحولتم وتمزقتم وتفرقتم: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}.
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ** لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ

يَوْمَ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ** وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الْوِلْدَان

وأخبر أنه عِنْدَمَا يقيم عَلَيْهمْ الحجة على البعث يقولون من يعيدنا أي من يعيدنا ونَحْنُ بهذه الحال: فقل تحقيقًا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشادًا إلى طَرِيق الاستدلال، الَّذِي يفعل ذَلِكَ هُوَ القدير العَظِيم الَّذِي لا يعجزه شَيْء في الأرض ولا في السماء.
الَّذِي ذرأكم في الأرض أول مرة على غير مثال يحتذى ولا منهاج معين ينتحى وكنتم ترابًا لم يشُم رائحة الحياة ألَيْسَ الَّذِي يقدر علي ذَلِكَ يقدر على أن يجمَعَ ما تفرق ويفيض الحياة ويعيده كَمَا خَلَقْهْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بلى إنه سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمَّ بين سُبْحَانَهُ ما يفعلونه حين ما يسمعوا الجواب: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} أي متى هَذَا البعث وفي أي وَقْت وحال يعيدنا خلقًا جديدًا كَمَا كنا أَوَّلَ مَرَّةٍ ومقصدهم من هَذَا السؤال استبعاد حصوله.
وفي معنى هذه الآية قوله تَعَالَى حكاية عنهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال تَعَالَى: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أي فاحذروا فإنه قريب منكم وسيأتي لا محالة وكل آت قريب وكل ما هُوَ محقق الحصول قريب.
وإن طال الزمان في نظر العباد ولم يخبر به أَحَدًا لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مُرسلاً: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي يوم يدعوَكَمْ للبعث والنشور والحساب والجزاء فتستجيبون له من قبوركم بقدرته ودعائه إياكم وله الحمد في كُلّ حال وتظنون حين تقومون من قبوركم إن لبثتم إِلا قليلا في دار الدُّنْيَا وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ}.
ونحو هذه الآية قوله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} وقوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً}.
هُوَ الدَّهْرِ فَاصْبِرْ مَا عَلَى الدَّهْرِ مَعْتَبُ ** وَلَيْسَ لَنَا مِمَّا قَضَى اللهُ مَهْرَبُ

وَلا بُدَّ مِنْ كَأْسِ الْحَمَامِ ضَرُورَةً ** وَمَنْ ذَا الَّذِي مِنْ كَأْسِهِ لَيْسَ يَشْرَبُ

وَمَا يَعْمُرُ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ حَازِمٌ ** إِذَا كَانَ فِيهَا عَامِرُ الْعُمْرِ يَخْرَبُ

وَإِنَّ عَلِيًّا ذَمَّهَا فِي كَلامِهِ ** وَطَلَّقَهَا وَالْجَاهِلُ الْغِرُّ يَخْطُبُ

أَلا إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ فِيهِ مَوَاعِظٌ ** لِمُتَّعِظٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ يَهْرَبُ

فَكَمْ مِنْ عَظِيمِ الْبَأْسِ صَارَتْ عِظَامَهُ ** أَوَانٍ وَمِنْهَا الْمَاءُ يَا قَوْمُ يُشْرَبُ

وَيُنْقَلُ مِنْ أَرْضٍ لأُخْرَى وَمَا دَرَى ** فَوَاهًا لَهُ بَعْدَ الْبِلَى يَتَغَرَّبُ

اللَّهُمَّ قومنا إذا اعوججنا وأعنا إذا استقمنا وكن لنا ولا تكن عَلَيْنَا وأحينا في الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وتوفنا مسلمين مخلصين وَاجْعَلْنَا عِنْدَ السؤال ثابتين وَاجْعَلْنَا ممن يأخذ كتابه باليمين وَاجْعَلْنَا يوم الفزع الأكبر من الآمنين ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
ومن توهمَاتَ المنكرين للبعث أن من يموت يضل رفاته في الأرض فتذهب صورته وصفاته فَكَيْفَ يرجع الله هذه الذوات والصفات وكيف يجمَعَ هذه الذرات المتفتتة من عظامهم وأثر هَذَا التوهم الفاسد يظهر في توهمهم أن علم الله غير محيط بكل صغير وكبير من أعداد الَّذِينَ يموتون من النَّاس وغير محيط بصفاتهم وأوصافهم وأعمالهم.
وقَدْ ذكر الله جَلَّ وَعَلا مقالتهم الفاسدة التي تدل علي التوهم من توهماتهم قال تَعَالَى حكاية عنهم: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهؤلاء قاسوا قدرة الخالق الَّذِي بدأهم أول مرة على قدرة المخلوق العاجز.
وشتان ما بين القدرتين: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}.
ثُمَّ زَادَ في النعي عَلَيْهمْ والإنكار لآرائهم بقوله: {بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي تعدوا ذَلِكَ إلى الجحود بلقاء ربهم وذكر الله جَلَّ وَعَلا مقالتهم هذه في سورة سبأ وهم أتوا بها على وجه الاستهزاء والتهكم والتكذيب والاستبعاد والإنكار.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي إنه يَقُولُ إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتًا وعظامًا وقطعتكم السباع والطير ستحيون وتبعثون ثُمَّ تحاسبون عىي ما فرط منكم من صالح الْعَمَل وسيئه.
وإن أمره دائر بين أمرين إما أن يكون مفتريًا على الله وإما أن يكون مجنونًا فرد الله عَلَيْهمْ مقالتهم وأثَبِّتْ لَهُمْ ما هُوَ أشد وأنكى فَقَالَ: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أي لَيْسَ الأَمْر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه.
بل إن محمدًا صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به من البعث وهم في شقاء عذابٌ في حياتهم من داخل نفوسهم كفرٌ وشكوك وأوهام وفي الآخرة إذا بعثوا ذاقوا ألوان الْعَذَاب لأنهم مجرمون متمردون على الحق وهم في الضلال الْبَعِيد الدال على عدم استبعاد البعث وَهُوَ أنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض فرأوا من قدرة الله فيهما ما يبهر العقول ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول ولكنهم كما قال تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} وَقَالَ عما قاله نوح عَلَيْهِ السَّلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}.
وَفِي الْكَوْنِ مِنْ سِرِّ الْوُجُودِ عَجَائِبٌ ** أَطَلَّ عَلَيْهَا الْعَارِفُونَ وَأَشْرَفُوا

آخر:
فَيَا عَجَبًا مِمَّنْ يُضِيعُ حَيَاتَهُ ** عَلَى حِفْظِ مَالٍ وَهُوَ لِلْغَيْرِ يَدْخَرُ

وَمَنْ تُتَوَفَّى نَفْسُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ ** وَتَرْجِعُ فِيهِ كَيْفَ لِلْبَعْثِ يُنْكِرُ

بَلَى قَادِرٌ أَنْشَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ** عَلَى رَدِّ رُوحٍ مِنْهُ فِي الْجِسْمِ أَقْدَرُ

آخر:
تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا ** مِنَ الْمَلِكِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ

وَقَدْ كَانَ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا ** أَلا كُلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ

وفي سورة ق ذكر الله تَعَالَى أنهم استبعدوا البعث وتعجبوا قال تَعَالَى حكاية عما قَالُوا: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}.
فعقول هؤلاء سخيفة حيث قاست قدرة من هُوَ على كُلّ شَيْء قدير وبكل شَيْء عليم الكامل من كُلّ وجه بقدرة الْعَبْد الفقير الضعيف العاجز مِنْ جَمِيعِ الوجوه الجاهل الَّذِي لا علم له.
فَقَالَ جَلَّ وَعَلا مشيرًا إلى دَلِيل جواز البعث وقدرته عَلَيْهِ مؤكدًا علمه بجَمِيع الأَشْيَاءِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} حافظ لتفاصيل الأَشْيَاءِ كُلّهَا محفوظ عن التغيير والتبديل بكل ما يجري عَلَيْهمْ في حياتهم أو مماتهم.
بعد أن ذكر حال منكري البعث لفت أنظارهم إلى الدَلِيل الَّذِي يدحض كلامهم ألا وَهُوَ النظر في آياته الأفاقية كي يعتبروا ويستدلوا بها على ما جعلت أدلةً عَلَيْهِ.
فإن من خلق السماء وزينها بالكواكب وأحكمها وبسط الأرض وجعل فيها رواسي وأنبت فيها صنوف النَّبَات صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ويتفاضل في الأكل.
وجعل ذَلِكَ تبصرة لأولي الألْبَاب ونزل من السماء ماء فأنبت به خضر الجنان والزرع المختلف الأصناف والألوان والطعوم والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقًا للعباد وأحيا الأرض الموات.
أفلا يستطيع من هذه قدرته وهَذَا شأنه أن يخَرَجَ النَّاس من القبور بعد بلائهم وبعد أن يصيروا عظامًا ورفاتًا وينشئهم خلقًا آخر في حياة أخرى وعَالِم غير هَذَا العَالِم بلي وَاللهِ إنه على كُلّ شَيْء قدير وبكل شَيْء أحاط عِلمَا.
وما أحسن ما قاله السفاريني:
وَاجْزِمْ بِأَمْرِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ** وَالْحَشْرُ حَزْمًا بَعْدَ نَفْخِ الصُّورِ

كَذَا وُقُوفِ الْخَلْقِ لِلْحِسَابِ ** وَالصُّحْفِ وَالْمِيزَانِ لِلثَّوَابِ

كَذَا الصِّرَاطِ ثُمَّ حَوْظِ الْمُصْطَفَى ** فَيَا هَنَا لِمَنْ بِهِ نَالَ الشِّفَا

عَنْهُ يُذَادُ الْمُفْتَرِي كَمَا وَرَدْ ** وَمَنْ نَحَا سُبْلَ السَّلامَةْ لَمْ يُرِدْ

وَكُنْ مُطِيعًا وَأَقْفُ أَهْلَ الطَّاعَةْ ** فِي الْحُوضِ وَالْكَوْثَرِ وَالشَّفَاعَةْ

فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلْمُصْطَفَى ** كَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ أَرْبَابِ الْوَفَا

مِنْ عَالِمٍ كَالرُّسْلِ وَالأَبْرَارِ ** سِوَى الَّتِي خُصَّتْ بِذِي الأَنْوَار

اللَّهُمَّ إنَّا نعوذ بك من جهد البَلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء وسوء المنظر في الأهل والْمَال والولد اللَّهُمَّ حبب إلينا الإِيمَان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وَاجْعَلْنَا مِنْ الراشدين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
ومن الأدلة الدالة على البعث قوله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
إن جفاف الزرع ويبس الشجر وانقطاع تغذيته من الأرض وحصاده وتحطمه يشبه حالة الموت في الأحياء.
ثُمَّ إن سنة الله الكونية الدائمة الظاهرة المشاهدة في عملية انشقاق الحبوب في بطن الأرض ونباتها بعد ما سبق من حالها التي تشبه حالة الموت وعودتها إلى الحياة.
والنظرة كرة آخرةً وَذَلِكَ عِنْدَ وجودها في البيئة الملائمة من ماء ممتزج بالتُّرَاب الصالح لتعطي تقريبًا حسيًا مشاهدًا باستمرار في الظواهر الكونية لقصة بعث الحياة وتفرق أجزائها في تراب الأرض.
وقَدْ نبه الله في القرآن إلى هَذَا الشاهد الكوني الَّذِي يقرب إلى تصور أصحاب هَذَا التوهم إمكَانَ الحياة الأخرى وإنها تشبه عودة الحياة إلى الزرع والنَّبَات بعد جفافها وما يشبه حالة الموات فيها قال الله تَعَالَى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وَقَالَ في سورة الروم: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وَقَالَ في سورة ق: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} جعل سُبْحَانَهُ وتعالى ما سبق دليلاً على البعث لأنه شبيه به.
وفي التعبير عن إخراج النَّبَات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للماثلة بين إخراج النَّبَات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه لأفهام النَّاس وكَذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
ففي إحياء الأرض اليابسة بعد نزول المطر عَلَيْهَا دَلِيل قاطع واضح على إحياء الموتى فكما أحيا الأرض بعد موته يحي الأجساد ويعيد إليها أروحها يوم القيامة.
فيقوم النَّاس من قبورهم لرب العالمين كما أخبرنا جَلَّ وَعَلا وَهُوَ أصدق قائل وَذَلِكَ أن الله ينزل ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يَوْمًا فتنبت منه الأجساد في قبورهم كما ينبت الحب في الأرض، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
وإِذَا أَرَادَ اللهُ إِخْرَاجَ الوَرَى ** بَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى مَعَادٍ ثَانِي

أَلْقَى عَلَى الأَرْضِ التِي هُمْ تَحَتَهَا ** واللهُ مَقْتَدِرٌ وذَوْ سُلْطَانِ

مَطَرًا غَلِيظًا أَبْيَضًا مُتَتَابِعًا ** عَشْرًا وعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ

فَتَظَََََََََََلُّ تَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَامُ الْوَرَى ** وَلُحُومُهُمْ كَمَنَابِتِ الرَّيْحَانِ

حَتَّى إِذَا مَا الأُمُّ حَانَ وَلادُهَا ** وَتَمَخَّضَتْ فَنِفَاسُهَا مُتَدَانِ

أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَا فَتَشَقَّقَتْ ** فَبَدَا الْجَنِينُ كَأَكْمَلِ الشُّبَّان

وَتَخَلَّتِ الأُمُّ الْوَلُودُ وَأَخْرَجَتْ ** أَثْقَالَهَا أُنْثَى وَمِنْ ذُكْرَانِ

وَاللهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ فِي نَشْأَةٍ ** أُخْرَى كَمَا قَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ

هَذَا الَّذِي جَاءَ الكِتَابُ وَسُنَّةُ الْـ ** ـهَادِي بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى الإِيمَان

يضاف إلى هذه الأدلة ما ذكر الله في كتابه أيضًا مثل قصة إحياء قتيل بني إسرائيل لسؤاله عن القاتل وهذه الْقِصَّة أخبرنا الله بها في أوائل سورة البقرة وملخصها فيما ذكر أنه كَانَ في بني إسرائيل شيخ موسر له ابن واحد قتله ابن عمه طمعًا في ميراثه.
ثُمَّ جَاءَ يطالب بدمه قومًا آخرين فأنكر المتهمون قتله وترافعوا إلى موسى عَلَيْهِ السَّلام كُلّ مِنْهُمْ يدفع التهمة عن نَفْسهُ فَقَالَ لَهُمْ موسى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وَذَلِكَ ليتبين لَهُمْ القاتل الحقيقي فَقَالُوا: أتهزأ بنا قال موسى: {أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فسألوه عن ما تتميز به من الأوصاف وشددوا على أنفسهم فشدد الله عَلَيْهمْ ثُمَّ عثروا عَلَيْهَا وذبحوها فأحيا الله القتيل وأخبر بالقاتل.
ومن ذَلِكَ قصة أصحاب الكهف وكيف ضرب الله على آذانهم ثلاثة قرون وتزيد تسع سنين وحفظ أجسامهم من البلى على طول الزمان وثيابهم من العفن والبلى وأعثر عَلَيْهمْ الفريق الآخر الَّذِينَ كَانُوا في شك من قدرة الله على إحياء الموتى وفي مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد البلى ليعلموا أن وعد الله حق ويقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها ففي ذَلِكَ عبرة ودَلِيل على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة.
ومن ذَلِكَ الَّذِينَ أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فَقَالَ لَهُمْ الله موتوا ثُمَّ أحياهم ثُمَّ بعد هذه الإماتة أحياهم ففيها أيضًا عبرة ودَلِيل قاطع على وقوع المعاد الجسماني وأنه لا مرية فيه ومن ذَلِكَ قصة الَّذِي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فَقَالَ مستبعدًا لعودة عمارتها وإحياء أهلها: {أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} قيل إن الله تَعَالَى أماته في أول النَّهَارَ وأحياه بعد المائة أخر النَّهَارَ.
وقيل وَاللهُ أَعْلَمُ أول شيء أحياه الله فيه عينيه لينظر بهما إلى قدرة الله وصنعه كيف يحيي بدنه فَلَمَّا استقل سويًا: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال جل وعلا وتقدس: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} قيل كَانَ معه عنب وتين وعصير فوجده لم يتغير وانظر إلى حمارك كيف يحييه الله عز وجل: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ} أي دليلاً على المعاد حيث أحياه الله بعد إماتته وأحيا حماره ولم يتغير طعامه وشرابه.
ومن ذَلِكَ إحياء الطيور الأربعة لما طلب أبينا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام من الله أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قَلْبهُ فأمره أن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء ثُمَّ يفرقها على عدة جبال حوله ثُمَّ يدعوها ففعل ودعاها بأسمائهن فاقبلن إليه سريعات تطير والطير أشد الْحَيَوَان نفورًا من الإِنْسَان غالبًا فهَذَا أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته وقدرته على البعث والمعاد والجزاء. فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومِنَ الأدلة الدَّالَةِ عَلي البَعْثِ مَا فِي قِصَّةِ مُوْسَى وَهَرُوْنَ مَعَ فِرْعَونَ فَفِي قَلْبِ عَصِىَ مُوْسَى حَيَّةً تَسْعَي تَلْقَفُ مَا يَأْفَكُونَ أكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى البَعْثِ وَذَلِكَ أنَّهَا صَارَتْ تِنَّيناً عَظِيْماً هَائِلاً ذَا قَوَائِمَ وَعُنُقٍ وَرَأْسٍ وَأَضْراسٍ فَجَعَلَتْ تَبْتَلِعُ تِلْكَ الحِبَالَ وَالْعُصِيَّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا ابْتَلَعتْهُ والسَّحَرَةُ والناسُ يَنْظُرُوْنَ إلى ذَلِكَ عِيَاناً جَهْرَةً نَهَاراً ضَحْوَةً.
ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِأَنْ يَأْخُذَهَا قَالَ لَه: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} فَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَخْذِهَا لَفَّ طَرَفَ المِدْرَعَةَ عَلَى يَدِهِ فَقَالَ لَهُ مَلَكٌ أَرَأَيْتَ يَا مُوْسَى لَوْ أَذِنَ اللهُ بِمَا تُحَاذِرُ أَكانتِ المِدْرَعَةَ تُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً قَالَ لَا وَلَكِنّيْ ضَعِيْفٌ وَمِن ضُعْفٍ خُلِقْتُ فَكَشَفَ عَن يَدِهِ ثمَّ وَضَعَهَا في فَمِ الحَيَّةِ حَتَّى سَمََِعَ حِسَّ الأَضْرَاسِ والأَنْيَابِ ثُمَّ قَبَضَ فإذَا هِيَ عَصَاهُ التِي عَهِدَهَا وإذَا يَدُهُ في مَوْضِعَهَا إذَا يَتَوَكَأُ عَلَيْهَا بَيْنَ الشُعْبَتَيْنِ فَفِيْهَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ علي بَعْثِ الأَجْسَادِ لِمَنْ بَصَّرَهُ اللهُ وَنَوَّرَ عَقْلُهُ.
ومِنَ الأَدِلَّةِ الدَّالَةِ عَلي البَعْثِ مَا أَيَّدَ اللهُ بِهِ عِيْسَي بنَ مَرْيَمَ عَلَي إِحْيَاءِ المًوْتَى قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ} فَكَان يُصَوَّرُ مِن الطِّيْنَ شَكْلَ طَيْرٍ ثمّ يَنْفَخُ فِيه فَيَكُونُ طَيْراً عِيَاناً بإِذْنِ اللهِ.
فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ البَرَاهِيْنِ عَلَي بَعْثِ الأَجْسَادِ وكَذَلِكَ إِحْيَاءُ المَوْتَى بإِذنِ اللهِ قال تَعَالَى: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ} فَهَذَا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ عَلَي بَعْثِ الأجْسَادِ لاَ رَيْبَ فِيهِ لِذِي عَقْلٍ سَلِيْمٍ.
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لاَ تَضُرُهُ اْلمعصِيَةُ ولاَ تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ أَْيْقِظْنَا مِنْ نَوُم الغَفْلَةِ ونَبّهنْا لاغْتِنَام أَوْقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفّقْنََا لِمصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنا وذُنُوبِنا ولا تُؤاخِذْنَا بمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمائِرُنا واكَنَّتْهُ سَرَائِرُنا مِنْ أنْواع القَبَائِح والمَعَائِبِ التي تَعْلَمُها مِنّا وَاغْفِر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمينَ الأَحْياءِ مِِنُْْهُمْ والميتيِنَ بِرَحْمَتِكَ يا أرحْمَ الرّاحِمينَ وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
هَذِهِ أبْيَاتٌ مُخْتَاَرَةٌ مِن قَصِيْدَةِ لِبَعْضِ العُلَمَاًءِ رَداً عَلَى مَنْ قَالَ بالطَّبِيعَةِ:
وَاهاً لِدُنْيَا إِذَا مَا أَقْبَلَتْ قَتَلَتْ ** وشَوْطُ إِقْبَالِهَا فَوْتٌ وَإِدْبَارُ

دَسَّتْ لَكَ السُّمَّ في حَلْوَى زَخَارِفِهَا ** وَزَيَّنَتْ لَكَ مَا عُقْبَاهُ أَضْرَارُ

وعِشْتَ دَهْراً مِنَ الأَعْوَامِ مُنْتَظِراً ** في مَلْعَبٍ كُلُّهُ جُرْمٌ وإِصْرَارُ

حَتَّى إذَا جَاءَ وَقْتُ المَقْتِ وَانْتَشَبَتْ ** يَا لاَهِياً لِلمَنَايَا فِيْكَ أَظْفَارُ

خَابَتْ ظُنُوْنُكَ فِي دُنْيا مُخَادِعَةٍ ** أَلْوَتْ عِنَانَكَ عَمَّا كُنْتَ تَخْتَارُ

يَا ذَا الوِجَاهَةِ والجَاهِ العَرِيْضِ لَقَدْ ** خَانَتْ عُهُوْدَكَ أَعْوَانٌ وأَنْصَارُ

أَلْقَوْكَ فِي حُفْرَةٍ هَالَتْكَ وَحْشَتُهَا ** كَأَنَّها مِخْدَعٌ يُغْلَي بِهِ القَارُ

وَغَادَرُوْك وَمَا فِي الحَيِّ مِن حَكَمٍ ** تَشْكُو إِلَْيهِ وَمَا فِي الدَّارِ دَيَّارُ

يَا رَاقِداً وَمَضِيْقُ القَبْرِ مَضْجَعُهُ ** أمَلَّكَ القِطْرُ أَمْ ضَاقَتْ بِكَ الدَّارُ

أَبعدَ مَا فِي مَغَانِي الحَيِّ من سَعَةٍ ** تُغْنِي الضَّجِيْعَ عنِ الأَمْيَاِل أَشْبَارُ

خَلَوْتَ وَحْدَكَ لاَ خِلٌ وَلاَ خَدَمٌ ** فَهَلْ تُنَاجِيْكَ بالإِصْلاَحِ أَفْكَارُ

أَمْ أَنْتَ مِمَّنْ يَرَوْنَ المَوْتَ رَاحَتَهُمْ ** يَا حَبَّذَ الموْتِ لَوْلاَ الحَشْرُ والنَّارُ

والقَبْرُ إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيْهِ مُنَغِّصَةٌ ** حَاكَتْ زَوَايَاهُ رَوْضاً فِيْهِ أَزْهَارُ

لَكِنَّهُ وَظَلاَمُ الزَّيْغِ يُوْحِشُهُ ** سْجٌن َلُه مِنْ ذَوَاتِ النَّهْشِ عُمَّارُ

فَهَلْ يُحَاكِي قُبُورَ القَوْمِ مَضْجَعُكُمْ ** أَمْ زَاَحَمْتكَ ظَلامَاتٌ وآصَارُ ا

بِالأَمْسِ صَدْراً أَخَا كِبْرٍ وَغَطْرَسَةٍ ** وَمَا سِوَي الصَّدْرِ نَهَاؤٌ وَأَمَّارُ

وَالَيْومَ بَيْنَ هَوَامِ الأرْضِ مُضْطَجِعٌ ** في مَضْجَعٍ مَا بِهِ جَارٌ وَسُمَّارُ

وَاهاً لِدُنْيَا إِذَا مَا أَقْبَلَتْ قَتَلَتْ ** وشَوْطُ إقْبَالِهَا فَوْتٌ وإِدْبَارُ

تَمُرُّ بالمَرْءِ مَرَّ الطَّيْفِ بَاسِمَةً ** وخَلْفُهَا مِن جُيُوْشِ الحُزْنِ جَرَّارُ

إِذَا سَقَتْ كَأْسَ إِيْنَاٍس أخَا سَفَهٍ ** تَجَرَّعَ السُّمَّ مِنْهُ وَهُوَ مُخْتَارُ

وَمَا السُّمُوْمُ سِوَي لِذَاتِهَا وبِهَا ** وَمَا السُّمُوْمُ سِوَي لِذَاتِهَا وبِهَا

تَزْهُوْا لأَهْلِ الهَوَي حَتَّى إِذَا ابْتَهَجُوْا ** جَاءَتْ بِمَا فْيهِ أرْزَاءٌ وَأَكْدَارُ

يَا وَيْحَ مَنْ أَخَذَتْ يَوْماً بِمخْنَقِهِ ** إلى طَرِيْقٍ إِلَيْهَا يَنْتَهِي العَارُ

ويَا نَدَامَةَ مَنْ لَمْ يَبْكِ إنْ ضَحِكَتْ ** فَضِحْكُها لِذَوِيْ اللَّذَاتِ إِنْذَارُ

وَيَا خَسَارَةَ مَنْ أَنْسَتْهُ مَبْدَأَهُ ** ومُنْتَهَاهُ وَلَمْ يُوْقِظْهُ تَذْكَارُ

كَالشَّابِ تُنْسِيْهِ عَصْرَ الشَّيْبِ غُرَّتُهُ ** حَتَّى إِذَا عَلَقَتْ بالأُزْرِ أَوْزَارُ

فَرَّ الشَّبَابُ وَظَلَّ الَّشْيُب هَازِمَهُ ** إِنَّ الشَّبَابَ أَمَامَ الشَّيْبِ فَرَّارُ

فَهَلْ لِذِي الجَاهِ أَنْ يَنْسَى مَنِيَّتَهُ ** والمَوْتُ فِي رَأْسِ رَبِّ الجَاهِ مِعْثَارُ

وَكَمْ وَجِيْهٍ تَعَامَي عَنْ عَوَاقِبِهِ ** إِذْهَابَهُ خَشْيَةً عَمْروٌ وَعَمَّارُ

وَظَلَّ فِي زُخْرُفِ التَّضْلِيْلِ مُتَّجِراً ** وَالنَّاسُ مِنْهُ بِسُوْقِ الزَّيْغِ تَمْتَارُ

حَتَّى إِذَا مَا الرَّدَى لِلْمَوْتِ أَضْجَعَهُ ** أًضْحَى كأُضْحِيَهٍ مِنْ حَوْلِهَا دَارُوا

وَمَاتَ وَالخَوْفُ حَيٌ بَيْنَ أَضْلُعُهِ ** وَلِلمَخَازِيْ بِتِلْكَ الدَّارِ أَدْوَارُ

أُفٍّ لِمُقْبِلَةٍ مَرَّتْ عَلَي عَجَلٍ ** كَأَنَهَا الفَجْرُ لَمْ يُمْهِلْهُ إِسْفَارُ

كَأَنَّمَا أََنْتَ وَالدُّنْيَا وَمَا صَنَعَتْ ** أُلْعُوْبَةً بَاعَهَا الصِّبْيَانِ مِهْزَارُ

أَلْهَتْهُمُوا بُرْهَةً حَتَّى إِذَا تَلِفَتْ ** وَفَاتَهُمْ فِي المَسَادَفُّ وَمِزْمَارُ

لَمْ يَلْبَثُوا فِي المَلاَهِيْ غَيْرَ سَاعَتِهِمْ ** وَقَدْ دَهَتْهُمْ مُلِمَّاتٌ وَأَكْدَارُ

وَهَكَذَا كُلُّ حَالٍ لاَ بَقَاءَ لَهَا ** وَكُلُنَا فِي الجَنَي لِلْمَوْتِ أَثْمَارُ

وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ الأَيَّامُ مَرْكَبَهُ ** فَكُلُّ أَوْقَاتِهِ ظَعْنٌ وَأَسْفَارُ

تَبّاً لِدَارٍ أَرَتْنَا مِنْ مَلاَعِبِهَا ** عَجَائِباً مَا أَتَاهَا الدَّهْرَ سَحَّارُ

فَيَا أَخَا العِلْمِ لاَ يُنْجِيْكَ عِلْمُكَ إِنْ ** فَاتَتْكَ خَشْيَةُ رَبٍّ اسْمُهُ البَارُ

وَيَا أَخَا المَالِ لاَ تَرْكَنْ لِكَثْرَتِهِ ** فَالْمَالُ كَالمَاءِ كَرَّارٌ وَفَرَّارُ

وَالجًاهُ ضَيْفٌ وَعُقْبَي الضَّيْفِ رِحْلَتُهُ ** وإِنْ دَعَتْهُ لِطُولِ المُكْثِ أَوْطَارُ

وَاضْرَعْ إِلى اللهِ يَا مَنْ بَاتَ فِي سَعَةٍ ** مِنْ نِعْمَةِ اللهِ إِنَّ الدَّهْرَ دَوَّارُ

ونِعْمَةُ اللهِ تأْتِي طَيَّ رَحْمَتِهِ ** كَمَاطِرِ غَيْثُهُ الهَطَّالُ مِدْرَارُ

لَكِنَّمَا الغَيُّ والطُّغْيَانُ يَنْقُصُهَا ** فَمَا تَهَنَّى بِهَا فِي الكَوْنِ كُفَّارُ

وإِنْ تَقُلْ إِنَّ أَهْلَ البَغْيَ فِي نِعَمٍ ** فَرَكْبُهُمْ فِي طَرِيْقِ الغَمِّ سَيَّارُ

والغَافِلُونَ لَهُمْ فِي القَبْرِ مُزْعِجَةٌ ** وَبَعْدَ فَصْلِ القَضَا عُقْبَاهُمُ النَّارُ

اللَّهُمَّ نَوَّرْ قُلُوبَنَا بِنُوْرِ الإِيمَانِ واشْرَحْ صُدُوْرَنَا واسْتُرْ عُيُوْبَنَا وأَمِّنْ خَْوفَنَا وَوَفِّقْنَا لاسْتِغْرَاقِ أَوْقَاتِنَا فِي البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِيْنَ الّذِيْنَ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُون وآتِنَا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصلى الله عَلَى مُحَمّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.